المسيحيّون العراقيّون يعودون بعد رحيل داعش وسط مخاوف أمنيّة
جوديت نورينك
قالت سارة قرياقوش حنا، المرأة التي تبلغ من العمر 70 عامًا، “نريد حرسنا الخاصّ. الأمر صعب للغاية بدونهم. من قبل كانوا أولادنا. الآن لا نعرف من هم”.
دخَلَت مكتب الأب يعقوب في كنيسة مارت شموني للسريان الأرثوذكس في برطلة. لا تزال الكنيسة المجاورة محترقة بشكل جزئي ومتضرّرة بعد عام على تحرير البلدة المسيحيّة في سهل نينوى بالعراق من تنظيم الدّولة الإسلاميّة (داعش). ولا يزال عدد كبير من المنازل أيضًا يحمل ندوب الاحتلال الذي فرضته المجموعة المتطرّفة طوال عامين، فضلاً عن النّهب وقنابل التّحالف الهادفة إلى إخراج قيادة داعش أو القضاء عليها.
من بين الأسر التي فرّت من برطلة في شهر آب/أغسطس 2014، عاد ما يقارب 700 فقط. وبقي أكثر من 1,000 في إقليم كردستان حيث وجدوا ملجأ لهم، ونجح الباقي في الهجرة ومغادرة العراق.
قال الأب يعقوب إنّ الوضع سيّئ في برطلة، فبالكاد نجد أيّ كهرباء، وتغيب الرعاية الصّحيّة، والنظام التعليمي بالكاد تعافى والأهمّ أن الأمن غير موجود. تكمن المشكلة في الشبك ، وهم مجموعة دينيّة عرقية عادت بأعداد أكبر من أعداد المسيحيّين. لديهم ميليشيا خاصّة بهم تشكّل جزءًا من وحدات الحشد الشّعبي العراقيّة، لكنّ متطوّعيها أصبحوا مصدر خوف نظرًا إلى سلوكهم العنيف الانتقامي الذي أظهروه في المعركة ضدّ داعش.
وقال الأب يعقوب إنّ بعض المشاكل نشأت بالفعل مع قيام رجال من الميليشيا باللّحاق بالنساء المسيحيّات في الشّوارع، والتجوّل بسيّاراتهم وهم يسمعون الأناشيد الدينيّة بأعلى صوت ويسيرون عبر البلدة وهم يقرعون صدورهم في المسيرة السنويّة لذكرى أربعين الحسين. “هذه قلّة احترام للشّعب المسيحي!”
وقعت مشاكل أيضًا بين الميليشيا والشّباب المسيحيّين الذين يحاولون جمع البيانات للكنيسة حول الأشخاص الذين عادوا، من أجل تقديم المساعدة. “احتجزت الميليشيا أحد [الشباب] بحجّة أنّه لم يحصل على إذن. بأيّ صفة يطلبون منا الحصول على إذن؟”
اشتكى الكاهن أيضًا من عمليّات نهب المنازل بعد تحرير البلدة واستيلاء أسر الشبك على الأرض الزراعيّة المسيحيّة. “هذه كلّها رسائل غير مباشرة للمسيحيّين كي لا يعودوا.”
وقد وافق على ما قالته قرياقوش. بما أنّ الشّرطة العراقيّة المحليّة لا تتمتّع بأيّ سلطة على الحشد، سيشعر الناس بأمان أكبر إذا تولّى المجتمع المسيحي عمليّات حفظ الأمن الخاصّة به. لكن القوّة المسيحيّة المحليّة التي تدرّبت لهذه المهمّة على يد قوّات البيشمركة الكرديّة منِعت من دخول برطلة بسبب ارتباطها هذا.
دعم عدد كبير من مسيحيّي برطلة الأكراد في استفتائهم الأخير على الاستقلال، واختاروا حتّى أن يصبحوا جزءًا من دولة كرديّة. لكنّ ردّة فعل بغداد العنيفة إزاء الاستفتاء، التي تمثّلت باستعادة الأراضي من الأكراد وفرض العقوبات، كان لها أيضًا أثر سلبي على المسيحيّين.
عاش أفراد الأقليّة الشبكيّة في المنطقة لعقود. وفي برطلة، هم يقومون بالاستيلاء على منازل المسيحيّين وأعمالهم إذ إنّ المسيحيّين يتركون العراق بأعداد كبيرة منذ سنوات، قبل وصول داعش بكثير. وتجدر الإشارة إلى أنّ بائِعَي اللّحوم الشّبكيّين على الطّريق المؤدّي إلى البلدة استأجرا محلّيهما من مسيحيّين. وقال أحدهما، حسين مصطفى، إنّ “العمل سيّئ لأنّ عددًا كبيرًا من الشبك لم يعودوا. لكنّ الوضع الأمني جيّد. بفضل الحشد، بإمكاننا لعب كرة القدم حتّى منتصف اللّيل بدون أن يحدث شيء”.
وأضاف مصطفى بقوله إنّ العلاقات مع المسيحيّين “جيّدة لكنّها ليست ممتازة”، مع انضمام رجال آخرين إلى الحديث. وبحسب ما أفاد به الرّجال، يريد المسيحيّون بيع منازلهم والحصول على تعويضات عن الأضرار. يعاني الشبك من جراء تمييزهم الدّيني، فالمسيحيّون لا يريدون الاختلاط. وقال مصطفى، “طوال 40 عامًا، مارسنا ديننا جنبًا إلى جنب واحترمنا بعضنا البعض”.
في حين نجد في برطلة بحرًا من الأعلام التي يظهر فيها الأئمّة الشيعة، لا ترتفع الرايات في قراقوش المجاورة إلا على بعض الحواجز عند مداخل البلدة. فهنا، للمسيحيّين قوّتهم الخاصّة التي تحميهم، وحدات حماية سهل نينوى، وهي كتيبة تشكّل جزءًا من الجيش العراقي.
عادت قراقوش لتضجّ بالحياة أكثر بكثير من برطلة، ومع أنّ الطوابق العلويّة ما زالت ربّما متضرّرة بشدّة، فتحت المتاجر المحليّة، والمقاهي والمطاعم أبوابها وعادت لتعجّ بالناس. وطليت المنازل باللونين الأحمر والأصفر لمحو ذكريات داعش الذي نهب عددًا كبيرًا من المباني وأحرقها قبل خروجه.
يدير مسيحيّون شباب معظم المحّلات التّجاريّة، ومن بينهم ايزو البالغ من العمر 24 عامًا، الذي يخبز اللّحم بالعجين المحلّي، وهو عبارة عن بيتزا رقيقة مقرمشة مع صلصة اللّحم والبيض. وهو يعتقد أنّ ربع شباب البلدة فقط قد عادوا، مع وجود البقيّة في كردستان، وبغداد وخارج البلاد. تردّد لدى سؤاله عن رأيه بالميليشيات في المنطقة، لكنّه قال أخيرًا بحذر، “سيكون الوضع أفضل لو إنّ المسيحيّين هم المسيطرون”.
وصل الحشد أيضًا بمسيرة الأربعين إلى شوارع قراقوش، لكنّ بالكاد أبدى الناس هنا أيّ ردّة فعل. فهم أكثر انشغالاً بحقيقة أنّ القرويّين السّنّة الذين بقيوا في البلدة أثناء احتلال داعش لها، والذين يقال إنّ عددًا كبيرًا منهم تعاون مع المجموعة التي يطلق عليها المحلّيون اسم داعش، ما زالوا هناك.
قال الأب جورج جحولا، الذي يرأس الهيئة الكنسيّة العليا لإعادة الإعمار، “انتهى أمر داعش، لكنّ القرويّين بقيوا. وأيديولوجيّتهم هي التحدّي الكبير”.
يقدّر أن يكون قد هاجر حوالي نصف مسيحيّي نينوى البالغ عددهم 150,000، ويعتقد الكاهن السرياني الكاثوليكي أنّ 90% تقريبًا من الذين بقيوا عادوا إلى البلدة. عادت معظم العائلات منذ شهر أيلول/سبتمبر، ليصلوا بذلك قبل بداية العام الدراسي، لكن يواصل الكثير من الرجال العمل في كردستان ويعودون فقط في عطلة نهاية الأسبوع.
على عكس برطلة، جذب عامل السّلامة السّكان ليعودوا إلى قراقوش، فضلاً عن مشروع إعادة الإعمار الذي يقوم به جحولا. “أظهرنا للناس أنّنا أنفقنا المال بطريقة سليمة. وأنّ الحياة بإمكانها أن تبدأ من جديد”.
أجرت لجنته جردة بجميع المنازل في قراقوش، وقسمتها إلى ثلاث فئات: المدمّر، والمدمّر جزئيًا والمتضرّر. وهو يشير إلى خريطة القمر الصّناعي الخاصّة بالبلدة وإلى رسوم بيانيّة ملوّنة تشرح الوضع. سيكلّف إصلاح كلّ شيء 65 مليون دولار. “تلقّينا حتّى الآن مليونًا واحدًا فقط.” ولم يأت أيّ من هذا المبلغ من الحكومة؛ فقد قدّمته بكامله الكنائس والمنظّمات غير الحكوميّة في أوروبا. والجدير بالذّكر أنّ موازنة العراق للعام المقبل تخصّص مبلغًا صغيرًا جدًا من المال لإعادة البناء ما بعد داعش.
تمامًا كزميله في برطلة، شدّد جحولا عى الهويّة المسيحيّة لبلدته. سيجري تغيير اسم قراقوش العثماني إلى بغديدا من جديد، وهو الاسم المسيحي الأصلي. قال إنّ “الأرض تعطي السّكّان الهويّة والأمن”. ولهذا السّبب هو غير مسرور بوجود “الميليشيات” ، تمامًا كيعقوب. وأضاف بقوله إنّ المسيحيّين يعارضون “غزو السّكّان الآخرين. المنطقة التي نملكها صغيرة جدًا بالأساس، وإذا استقبلنا غير المسيحيّين، ستصبح هذه المساحة أصغر حتّى”.
المصدر : المونيتور