صاغتني أمي: رحلة بين القيم وبناء الشخصية

الرابط المختصرhttps://www.ashurnews.com/?p=57711

صاغتني أمي: رحلة بين القيم وبناء الشخصية

Linkedin
Google plus
whatsapp
24 سبتمبر , 2025 - 12:23 ص

صاغتني أمي: رحلة بين القيم وبناء الشخصية

كتبت: د.غدير سلام عارف/ تدريسية في جامعة بغداد  

الأم ليست مجرد حضن يبعث الطمأنينة، بل هي مدرسة صامتة تُلقي دروسها بلا كتب ولا محاضرات، وتغرس في أبنائها قيمًا تُشكّل ملامحهم الأولى في الحياة. وحين نتأمل أثر التربية الأمومية في تشكيل الشخصية، ندرك أن كثيرًا من السلوكيات والطباع التي ترافقنا في الكبر تعود إلى تلك اللمسات الأولى التي صاغتنا بهدوء. ولأن القيم لا تُكتسب بالكلمات وحدها، بل بالممارسة والقدوة، كان لأمي الدور الأعمق في صياغة شخصيتي ومساري، لتتحول توجيهاتها اليومية إلى مبادئ راسخة تشكّل جوهر حياتي.

لطالما كانت أمي تُشدّد على مبادئ بسيطة، لكنها عميقة في أثرها: ألا نطلب شيئًا عند أحد، وأن نرفض أي عرض للطعام أو الشراب ما لم يُلح عليه صاحب البيت، وألا نقتحم أي غرفة دون إذن، وألا نعبث بممتلكات الآخرين، وألا نطلب ما ليس لنا، كانت هذه التوجيهات، رغم بساطتها، تحمل درسًا عميقًا عن الاحترام، وضبط النفس، والاستقلالية.

علمتنا أمي منذ الصغر احترام خصوصيات المنازل التي نزورها وحرمات أهلها: فلا نحرك قطعة أثاث، ولا ننتقد أماكن اللوحات، ولا ندخل غرف النوم، ولا نفتش في الأدراج عن أسرار صغيرة مخبأة. لم نكن نسأل عن الأودية الصغيرة على المنضدة قرب السرير أو أسباب الشجارات التي تصدر صرخاتها لأطراف الحي. ولم نشمئز من أطعمة يقدمها الآخرون، ولم نشتكِ قلة الملح أو كثرة السكر في الحلوى.

كانت أمي تغضب إن ضحكنا على البنطال القصير جدًا الذي كان يرتديه جارنا الغريب الأطوار مرفوع الرأس حتى السماء أثناء ري حديقته. كانت تردد دائمًا أن للغير دائرة تحيطه، هي مساحة من الحرية لا يجب أن يشاركها غيره أو يطأ عليها إلا بإذنه، ولا يحق لنا السخرية منها مهما بلغت غرابتها.

كانت أمي تقول لنا دائمًا: “لسنا بحاجة لأن نطلب، فكل ما نحتاجه ستُلبّيه الحياة لنا، وأكثر”. وعشنا هذه المبادئ بلا شعور بالحرمان؛ لم نكن نشتهي الطعام مهما بدا شهيًا، ولا الشراب مهما تنوعت أنواعه. كنا نشعر بما يُسمّى “الشبع الداخلي”، الذي لا يأتي فقط من الطعام، بل من الثقة بالنفس والقناعة بما قسمه الله لنا.

د. غدير سلام عارف

مع مرور الزمن، كبرنا وفهمنا الحكمة من هذه التربية. لم تعد أمي تذكرنا بالقواعد، لكننا طبقناها بأنفسنا دون تفكير. أصبح احترامنا للآخرين عادة طبيعية، ومعاملتنا لممتلكاتهم قائمة على شعور أصيل بالاحترام، لا الخوف من العقاب.

لم نعد نطلب ما لا نملك، ولم تعد رغباتنا مرتبطة بما لدى الآخرين، لأن القيم قد زُرعت في داخلنا.

كبرنا وأدركنا أن قواعد أمي لا تصمد دائمًا في هذا العالم، وأن ليست كل الأمهات لها هذه الصرامة في فرض الآداب. لكن أثر ما زرعته أمي فينا كان أعمق؛ لقد صرنا أشخاصًا نعيش قيمنا الداخلية بلا تصنّع، نقدر الآخرين بلا حسد، ونتمتع بالاحترام الذي نحترمه نحن أولًا.

إن أثر التربية الصامتة، كما علمتنا أمي، لا يظهر دائمًا في اللحظة نفسها، لكنه يترك بصمات دائمة في شخصية الإنسان، ويصنع منه شخصًا قويًا في مواجهة الحياة، واعيًا بقيمه، مستقلاً في قراراته، متواضعًا في مطالبه، ومقدّرًا للآخرين في كل تصرفاته.

وفي الختام، تظل دروس أمي الصامتة نبراسًا يضيء حياتنا، ليس في تفاصيل القواعد وحدها، بل في روحها العميقة والقيم الراسخة التي زرعتها فينا بهدوء وبدون شعارات. فقد علمتنا أن الاحترام ينبع من الداخل، وأن التواضع والقناعة هما أرفع أشكال القوة. وعلمتنا أن نرتقي بالعز والجاه والدلال والرفعة، دون أن نرد طلب أحد، ودون تفاخر أو تظاهر، ودون أن نقلل من شأن أي إنسان. فقد تعلمنا أن نعامل الجميع بسوية، لأن الله لا يفرق بين البشر إلا بالتقوى. وكل ما نعيشه اليوم من اتزان نفسي وثقة بالنفس، وكل لحظة نقدر فيها الآخرين ونعاملهم بإنصاف، هو ثمرة تلك التربية الصامتة. فهي لم تصنعنا فقط أبناءً يحترمون القيم، بل صنعتنا بشرًا قادرين على مواجهة الحياة بحكمة وحنان، وبصمتك يا أمي محفورة في قلوبنا، لتظل نورًا يهدينا إلى الأبد

مكة المكرمة