حين يصبح العقل رهينة التجهيل

حين يصبح العقل رهينة التجهيل
حين يصبح العقل رهينة التجهيل
كتب: منتصر صباح الحسناوي
لطالما كانت المعرفة البشرية قائمة على ركيزتين أساسيتين: “كيف” التي تفسر الظواهر وتشرح آليات الوجود، و”لماذا” التي تبحث في الغاية والمعنى.
بين هذين السؤالين خطا الإنسان أولى خطواته نحو الفهم متأرجحاً بين البحث عن الأسباب الموضوعية والبحث عن القيم والغايات الكبرى. لكن حين تُلغى إحدى الركيزتين لصالح الأخرى لا ينتج عن ذلك سوى تشويه للحقيقة، إذ يُختزل الإنسان إما في معادلات ميكانيكية باردة أو يُغرق في غيبيات لا تفسح مجالاً للسؤال والتجريب، مما يؤدي إلى تجهيل جمعي يُبعد المجتمعات عن التطور الحقيقي.
منذ فجر التاريخ لم يكن الإنسان مجرد كائن يسعى للبقاء بل كان دائم البحث عن تفسير لما حوله، تَطلع إلى السماء متسائلًا: “كيف” تتحرك النجوم؟
ثم لم يلبث أن سأل: “لماذا” وُجدت؟
هذه الثنائية لم تكن مجرد ترف فكري بل كانت حجر الأساس لتقدمه، جاء العلم ليجيب عن “كيف”، عبر الملاحظة والتجريب، ليكشف لنا قوانين الفيزياء وتطور الكائنات وتكوين الكون.
أما الفلسفة والأديان فقد تصدت لسؤال “لماذا” محاولةً فهم الغاية من الحياة والأخلاق والمصير وما وراء الميكانيكية البحتة للكون.
لكن التاريخ لم يكن متسامحاً مع هذه الثنائية بل شهد صراعات متكررة كان فيها أحد السؤالين يُقصى لحساب الآخر مما أدى إلى انحرافات فكرية تركت أثرها العميق على مسيرة الحضارة.
في عصور سيطرة الخطاب الدوغمائي، كانت الأسئلة العلمية تُحاصر، وتُحارب النظريات التي تفسر الظواهر الطبيعية خارج الأطر الدينية السائدة، فُرضت إجابات مسبقة على كل تساؤل، ولم يكن يُسمح لـ “كيف” بأن تعمل بحرية. كان السؤال عن دوران الأرض أو نشأة الكون محظوراً لأن الجواب كان محسوماً وفق تفسيرات دينية صارمة. أصبح الإنسان محصوراً في تصورات ثابتة لا تقبل النقد أو التطوير واعتُبر كل من يحاول البحث خارج هذه الدائرة متمرداً أو زنديقاً.
التاريخ مليء بأمثلة لإلغاء “كيف” لصالح “لماذا” المتصلبة، إذ كانت الأسئلة العلمية تُعد تجديفاً وكان المفكر يُقصى لمجرد أنه تساءل عن كيفية عمل الطبيعة، هذا الجمود لم يُكسر إلا مع عصر النهضة والتنوير، حين استعاد الإنسان حقه في البحث عن “كيف” تعمل الأشياء؟ دون أن يُجبر على التماهي مع إجابات “لماذا”؟ الجاهزة.
لكن ما الذي يحدث حين يتم استبعاد “لماذا” ؟ حين يصبح العلم هو المصدر الوحيد للحقيقة ويُلغى أي بعد فلسفي أو روحي؟
في القرنين الماضيين مع تصاعد النزعة العلمية المادية ظهرت اتجاهات فكرية تنكر تماماً أهمية “لماذا”، معتبرةً أنها سؤال غير ذي جدوى لأنه لا يخضع للتجربة والقياس. رأى بعض الفلاسفة أن الإنسان ليس أكثر من كائن بيولوجي معقد بلا غاية أو معنى يخضع لتفاعلات كيميائية وقوانين فيزيائية، لكن هذا الاختزال أدى إلى فراغ فكري وأخلاقي، إذ أصبحت القيم والتصورات الكبرى عن الخير والشر والعدل والمعنى مجرد مفاهيم نسبية بلا أساس، بعض الأيديولوجيات الحديثة التي أنكرت “لماذا” تماماً انتهت إلى تبرير الفوضى واعتبار الإنسان مجرد وحدة إنتاج أو مستهلك في منظومة اقتصادية بحتة، تحكمها المصالح دون أي اعتبار للقيم الإنسانية. إن إلغاء “لماذا” يجعل المعرفة العلمية أداة بلا توجيه، تُستخدم دون قيود أخلاقية مما يفتح الباب أمام أخطار هائلة من الحروب التي تُشن باسم التقدم إلى التلاعب الجيني والتكنولوجيا التي قد تخرج عن السيطرة.

التجهيل لا يحدث فقط بغياب العلم أو الفلسفة، بل حين يُفرض أحد الجانبين ويُقصى الآخر قسراً، حين يُقال للناس إن كل الإجابات موجودة سلفاً فلا حاجة للسؤال، يُصنع جهلٌ ممنهج يُبقي العقول داخل قوالب جامدة. وفي المقابل حين يُقال إن كل شيء يجب أن يخضع للتجربة والقياس، ويُرفض أي بعد روحي أو فلسفي يُسلب الإنسان القدرة على البحث عن المعنى. إن المجتمعات التي تمارس التجهيل الجمعي لا تكتفي بمنع التساؤل بل تعيد صياغة منظومتها التعليمية والفكرية لتجعل الناس يعتقدون أن أحد الجانبين غير ضروري أصلاً.
هذا القمع المزدوج سواء أتى باسم الدين أو باسم العلم يؤدي إلى تخلف فكري يحدّ من قدرة الأفراد على التفكير النقدي والتأمل العميق.
التاريخ يثبت أن المجتمعات الأكثر ازدهاراً هي التي لم تلغِ أحد الجانبين لصالح الآخر، بل سمحت للعلم بأن يجيب عن “كيف” وللفكر بأن يستمر في البحث عن “لماذا” دون قيود تحجر العقول أو تلغي التساؤل. حين يفهم الإنسان أن قوة المعرفة تكمن في التكامل لا في الإلغاء، يمكنه أن يخرج من دوائر التجهيل الجمعي ويستعيد حقه في التفكير الحر ليكون علمه أكثر إنسانية وفلسفته أكثر انفتاحاً على الحقائق، فالتقدم الحقيقي لا يتحقق بالعلم وحده ولا بالفكر المجرد وحده بل بتوازن دقيق يسمح للعقل أن يتنقل بين “كيف و لماذا” دون قيود أو خوف