حرائقُ الصّمت… تلامسُ جناحي نورسٍ نأى عن الفرات

حرائقُ الصّمت… تلامسُ جناحي نورسٍ نأى عن الفرات
حرائقُ الصّمت… تلامسُ جناحي نورسٍ نأى عن الفرات
للاديبة والكاتبةالسورية نجاح ابراهيم
عتبة “1”
قد نختلفُ على مكان، “على بئر وقرطاس ورمال,
وعلى من خدع الآخر في الخيمة، واستخلف في الناس ، وقد صال وجال .”
كما قال أحد الشعراء، ولكن محال ألا نتفق على أنّه شخصية ودود للجميع، يمدّ يدين مترفتين بالحبّ والصّداقة، فإن فتحتَ الصّفحة الأولى من كلّ كتبه التي يقدّمها للأصدقاء، تجده قد دوّن إهداء وذيله بعبارة:
” بمودّة دائمة ” فكيف نردّ على مودّته ؟
عتبة “2”
لا أعرف كيف يُكتب النقد، ولا أدرك البتة مقاييسه, كما يفعل النقاد، فحين أقرأ عملاً أدبياً، أنسج انطباعي على شاكلة قصيدة نثرية ممتدة عبر صفحات، أو نصّ يقاربُ النصّ القصصيّ.
فألتمس العذر إن جنح الياقوت بلونه ، ومال نحو الفضّة، أو عُتّقت بهاءُ الشمس في زقّ نبيذ.
مرايا القصّ:
عرفناه ناقداً، احتفى بكلّ ما نكتب، وما نصدر من كتب، فمن منّا لم تقتفي ناياتُ الناقد فيه منجزنا الأدبيّ ؟ ومن منّا لم يسمع إيقاعه الحبريّ على صفحات الجرائد والمجلات ؟! وقرأناه قاصاً ، إذ بدأت تجربته القصصية في مطلع السبعينيات من القرن الفائت ونشر ما كتب من قصص قيّض لها أن تكون في مجموعة ( موتى الأحياء )عام 1976، وذلك (النداء الطويل الطويل) عام 1984، انتهاء ب ( هواجس غير منتهية) عام 2004،
وقارئ المجموعتين الأولى والثانية ، يجدها قصصاً فراتية بحتة، حيث تشكل بيئة الفرات بمعالمها وهمومها المحور الرئيس ، بما تروي من حكايات الفقر والبؤس والظلم والفشل ، وقليلاً من الطموح كما في قصته ( سالم الوقاع ) حيث أراد الهروب من الواقع الاجتماعي المتأزم، بيد أنه طموح فردي لا يرقى إلى مستوى الجماعي ، لهذا تأتي النهاية فاشلة ، كما نلحظ القيود الاجتماعية التي تقيد المرأة في المنطقة ، وتقف دون تحرّرها، يفرضها مجتمع ذكوري كما في قصة ( القيد ) في مجموعة ذلك النداء الطويل ، ولا ننسى عملية القتل التي تميزت بها قصّة ( الحمى ) حيث العرّافة تبشر بأن الإنسان هنا إمّا قاتلاً أو مقتولاً ، وهي بذلك تقرأ واقعاً:
” .. ولكنّهم سيقتلون كما قتلت ، درب القتل مفتوح على القتل ، شجر القتل ينمو في كلّ الفصول والقاتل مقتول .” ص54
أمّا في المجموعة الثالثة ( هواجس غير منتهية ) نجد الكاتب قد غدا نورساً وقد غادر ضفاف البلاد, ليس بلدته النائية فحسب، وإنّما وطنه أيضاً، متنقلاً بين السّماوات علها تتسع لهواجسه ومعاناته ، وتأخذ قصصه معانٍ أكثر عمقاً ، إذ تنبلج على حياة معاصرة تتأثر بمتغيراتٍ تمسّ حياة الكاتب ، وانفتاحه على أمداء مغايرة، تاريخياً وثقافياً ، خلاف قصص المجموعتين السّابقتين اللتين تمسّان القاع الاجتماعي الفراتي.
جرّاء ذلك الانفتاح يكثر التقاؤه بالمرأة بين المحطات ، وعلى متن الطائرات ليتوالد حبّ سريع مآله إلى نسيان ، ومسوّغ ذلك ، الاحتماء من الوحدة القاتلة والغربة والانكسارات ، إضافة إلى تأزّم المثقف العربي، إذ معظم أبطال المجموعة وهم نخبويون بلا استثناء ، يفكرون جيداً ، ولكنهم منكسرين دائماً ، هذه الانكسارات تأتي نتيجة علاقة المثقف مع واقعه الذي يؤدّي إلى خذلان وفقد وخوف . ونهايات القصص متشابهة حيث الرّحيل المحتوم والصّمت الذي يساهم القاص في انكفاء الشخصية على ذاتها ، ففي قصة ( مونولوغ ومونولوغ مضاد ) مثقف عربي يحضر مؤتمراً في أوربة ، يتناولُ موضوع التنمية في البلاد العربية ، نجدُ البطل وقد أصمّ أذنيه عما قيل في الاجتماع ، وتقوقع في دائرة القطيعة مع المؤتمرين ليقول في النهاية وقد فضّل صمته على المشاركة : ” انقضّ اللقاء ، كانوا جماعات يتحدّثون ، ولم أسمع شيئاً .” ص83
ويتناسل الصّمت في كلّ النصوص ، يتشجّر حتى يغدو غابة كثيفة ، يبدأ منذ أن عنون الكاتب أولى قصص المجموعة ب ” الصّمت ” وختمها بعبارات دالة عليه ، فحين التقى المرأة في صالة مكتظة بالكتب، والأرجل البطيئة ، والوجوه اللائبة ، لم يكن يعرف كم مضى من الوقت على لقائه بها للمرّة الأخيرة ، بعد انفصالهما من مساكنة دامت أمداً ، ” شاع صمت موحش ، لكنّه بعد لأي همس : لقد تأخرتِ ، لقد افتقدتك ، لم تجب لأنّها للأسف تؤثر الصّمت دائماً .” ص9
فما الذي يجعل الكاتبُ يثقل امرأة قصّته بالصّمت, هي التي عاشرته زماناً ؟ ولمَ يبرّر ذلك بقوله فيما بعد :” هل هي استراحة المحارب ، أم هدأة النفس أمام توثبها المقلق ؟
وعلى البعد القريب لمحها تتصفح مجلداً ، سأل سؤالاً بسيطاً ، بيد أنّ المرأة لا تردّ ليغرقها الكاتب بالصّمت إذ يقول :” وساد الصّمت ثانية ، ووجهها في المجلد “، إلا أنّه ينطقها في آخر النصّ لتسأله : ” هل تعتقد أنّ بعض الوقت يكفي ؟” لتضيف بعدئذٍ :” لقد ألفتُ وحشة نفسي ، هل ثمّة فائدة من استرجاع المرارة كلها .”ص13
ويمدّ الكاتب صمته ليشمل باقي قصص ” هواجس غير منتهية ” ففي قصة ( عتمة غافية ) ” ينسابُ صوتها مع الصّمت ونحن نغذ السير على أكوام أوراق مازالت خضراء ” و” تجاذبنا طرفاً من كلام ، ونبت الصّمت على وجوهنا حفنة من مشاعر متكسّرة على أطراف الكلام .”
في قصة ( أمكنة أخرى كثيرة ) يقول : ” نظراته حائرة ولا تستقر على حال، وهي صامتة حتى أنّ أنفاسها اللاهثة مثل الأنين الموجع .” و ” كانا يتلهّفان للحديث إليه ،ثم قلّت مع الزّمن الكلمات ، وصاروا ثلاثتهم يقضون السّاعة أو السّاعتين في الصّمت .”
وفي قصّة (حنو بالغ ) يهب الكاتب الصّمت حتى على أبطال قصه الصّغار فيقول : ” فصار الطفل يتعلم صمت جدّه وشرود نظراته .”
وفي ( أندلس الأعماق ): ولم يستطع تبين كلماتها, صمتت وغاصت في النشيج.” وقصة ( مراثي الوقت ): ” غرقنا في الصّمت .”
هو الصّمت إذاً يستحيل حرائق، تمتدّ من قصة إلى أخرى حتى يكون بديلاً عن الكلام ، وبطلاً متميزاً يفيضُ رمزاً ودلالة ، وغالباً يكون الصّمت أبلغ حين يكون درعاً واقياً.
أسئلة كثيرة تساءلتها عن دلالات الصّمت، التي مارت في نصوص المجموعة حتى شملت وصف المكان: ” ففي أمسيات ضواحي موسكو ، لا يُسمع في الحديقة سوى صوت حفيف أوراق الشجر ، حتى الهمس لا يسمع ،كلّ شيء تجلّد حتى الصباح ، لو تعرفون كم هو غال علي هذا الصّمت .”ص85
أحدهم قال : إنّ صمت عبد الله أبو هيف ما هو إلا تعبير نفسي عن عدم القدرة على الفعل أو الانفعال ، الذي يدفع الإنسان إلى الاعتكاف، أو اللجوء إلى الوحدة ، وإحداهن علقت : لأنّه قاص لا يحبّ الكلام ، والصّمت عنده معادل موضوعي للخوف ، الخوف من التعلق بالآخر ، بينما نرى لصمته قدسيّة ومهابة وعطاء، فهو يقرأ كثيراً ويكتبُ كثيراً، فنشعر من خلال كتاباته المتدفقة أنّه ما يزال يحمل أحلاماً وهواجس تشغله ، وما حرائق صمته إلا مسوغاً لتأمله واتساع آفاقه ، وما وصول النار إلى جناحيه إلا تحليق ذلك الصّمت في أمداء حلمه العالي.(انتهى).