بدلاً من ديفيد واحد… لدينا مليون ديفيد
بدلاً من ديفيد واحد… لدينا مليون ديفيد
كتب: مهند حيمور
البايرومينيا Pyromania هو مصطلح في علم النفس معناه هوس الحرائق. “الحارق” يتملكه هوس شديد بإضرام النيران. وكثيراً ما يكون الحارق هو أول المتصلين بالدفاع المدني والشرطة وليقف بعدها يراقب المشهد مستمتعاً ومنتشياً.
في مدينة فكتوريا في استراليا، اكتشف “ديفيد” والذي يبلغ من العمر 19 عاماً بأن صديقته تخونه مع رجل آخر. صعد في سيارته، وبينما هو يسير في طريق وسط غابة كثيفة بالأشجار والأعشاب، قرر بأن يفتح أبواب جهنم وقام بإشعال النيران في الغابة. وقبل حادثة ديفيد بأعوام، تسبب حريق في استراليا بمقتل 173 شخص وكان السبب أيضاً في كثير من الحرائق في ذلك اليوم والذي يسمى في استراليا بـ “السبت الأسود” هو الحرق العمد.
تمكنت الشرطة من القاء القبض على ديفيد واعترف بجريمته. وعندما سألوه لماذا أقدمت على هذا الفعل؟ قال لأنني كنت اشعر بألم شديد وفي نفس الوقت ليس من طبيعتي مواجهة الناس لأعبّر عن ألمي وغضبي. عادة اشعر براحة نفسية عندما أقود السيارة وانطلق. ولكن هذه المرة كنت بحاجة الى أن أرى شيئاً آخر يتألم، أن أدمّر شيئاً ما أو الحق به الضرر، وهذا سيخفف من ألمي.
لم أجد حتى الآن مصطلح مماثل في علم النفس لوصف “الهوس بالحرائق السيبرانية”. بمعنى، أن يقوم أحدهم بنشر شيء ما على وسائل التواصل الاجتماعي، فقط لغرض “إشعال نيران” أو فتنة ما ولكي يتلذذ بعدها بمشاهدة النيران وهي تلتهم الأخضر واليابس.
أخطر أنواع “الحرائق السيبرانية” هي التي يتم افتعالها من قِبل مثقفين، أو على الأقل من لديهم جمهور يعتبرهم مثقفين. هؤلاء لديهم اعواد ثقاب مميزة كفيلة بأن تسبب الكثير من الحرائق، ويعرفون أيضاً أماكن “الغابات” الجاهزة وأفضل الأوقات لإشعال النار. ربما يشعر هذا الشخص بأن قطار العمر قد فات. ربما كان يحلم بأنه سيكون زعيم أو محلل سياسي أو اجتماعي يُشار له بالبنان، أو صاحب ثروة ونفوذ، لكن أيّا من هذا لم يحدث. وربما أيضاً أنه قد تعرض لظلم وأذىً كبيرين. فهو يشعر بالألم، وكما هو الحال مع ديفيد، فهو في الوقت نفسه غير قادر أو ليس من طبيعته المواجهة المباشرة والتعبير عن الغضب والإحباط. فتجده ينزوي في عزلته مع هاتفه ويقرر اضرام النيران ومتابعة تطورات الحريق ومحاولات الناس في اخمادها. وما أن يتم اخمادها، حتى يكون قد ألقى اعواد ثقابه في مكان جديد.
استفزني اليوم منشور من أحد “المثقفين”. لم يكن المنشور تعبيراً عن وجهة نظر معينة أو تحليل يمكن أن يثري النقاش في القضية. بل كان الغرض منه وبدون أدنى شك هو “اشعال النار”. فهو ذلك النوع من الكلام الذي لا يمكن أن يوصلنا الى أي نتيجة على الاطلاق سوى النتيجة الحتمية في اشعال نيران الفتنة بين طرفين. وفعلاً، وكما هو متوقع، اشتعلت النيران. فبدأ طرف يشتم الطرف الآخر ويضرب “تحت الحزام” وبالطبع قام الطرف الآخر برد الصاع صاعين، وكبر “الحريق” وانتشر، وناس عملت “شير” و “لايك”.
اشعر أحياناً أن المجتمعات العربية هي أشبه ما تكون بالغابات في أشد أيام الصيف حرارة. أشجار واعشاب جافة وكثيفة، تنتظر عود ثقاب صغير ليأتي على كل ما فيها بغمضة عين. وبسبب كثرة الظلم والأذى والأحباط وخيبات الأمل، وبسبب قلة الوعي – وأحياناً قلة الأدب – فبدلاً من ديفيد واحد، لدينا مليون ديفيد.