أوراق آذار…
أوراق آذار…
صباح محسن
في مطلع سبعينات القرن الماضي ، كنا فتية نتطلع لغد افضل ، وصرنا نرى ان مستقبل بلدنا مرهون بمدى تضحيتنا له ، ورافقنا هذا الهاجس طويلا ، حتى نسينا بعض من اهتماماتنا ، وتقربنا لافكار ، كانت تنادي بتغيير منضومة السائد ، وردم الهوة بين الناس ، ومواجهة العسف ، بشتى الوسائل ، وكان بعض من دلّنا على طريق الالتزام بتلك الاهداف ، مؤمنون بتغيير سلوكنا ، ووضعنا على جادة الصواب ، واندفعنا بقراءات ، كانت اكبر من احلامنا ، وهي بالتاكيد اكبر من استيعابنا ، مع ان هؤلاء الذين حددو مساراتنا ، يؤمنون بعدم قدرتنا للاستيعاب ، لكنهم يرون ضرورة مواجهتنا لتلك التوجهات ، كي يقتلوا حالة الخوف من مواجهة الكتاب ، والافكار التي تتخللها تلك الكتب ، والتي يتم اختيارها بعناية ، منها عن حياة لينين ، وبعض الكراسات التعريفية بالفكر اليساري ، ومجموعة منتخبة واشبه بالمدرسية لطروحات الماركسية ، واشياء مختلفة من روايات ومجموعات شعرية وقصصية ، متنوعة ، واغلبها ذو توجه اقرب لليسار ، واعمال مختارة لعبد الملك نوري وفرمان والتكرلي ، ومحمود احمد السيد ، وموجة منتخبة لجيل الستينات ، مع سيل لايتوقف من مجلات واعداد خاصة من مجلة المجلة وبعض اصدارات نوفوستي ، والكثير من اعمال مكسيم غوركي وتولستوي وترغينيف ودستويفسكي ونحيب محفوظ ويوسف ادريس ، وكاتب ياسين ومولود فرعون واخرين كثيرين ، ازدحمت بها ذاكرتنا واختياراتنا ، وكان البعض من الفتية يتغاضى عن ذلك الضخ عبر حفظه لبعض اسماء الكتاب وعناوين الكتب مع التاكيد على الاهتمام بشكل الكتاب ، بدءاً من اللون وصولا الى الحرف ، وكانت بداية فترة السبعينات ضاجة بالعروض الفنية والمسرحية والسينمائية والغنائية ، ونحتاج ان ننظم وقتنا كي نحصل على اكبر قدر ممكن من حضور تلك الانشطة ، مما دفع البعض لان يحصل على اكثر من عرض ان يتوفر على سيارة او ان يكون عداءا جيدا كي يتنقل من مكان لآخر ، وتلك كانت اشبه بالمعجرة ، ومن ذلك اغفل البعض منا ان يلتفت لمتابعة دراسته ،ازاء مغريات الضخ الفكري والجمالي لتلك النشاطات ، والاهتمام ، بالثقافة تحديدا ، كونها تفتح افاقا اكثر للحصول على المزيد من المعارف القريبة لاهداف تلك التوجهات .
كانت فترة ذهبية ، لاتعوض ، في ضخها للتنوع الثقافي ، ومن خلال ذلك الحراك ، تقربنا اكثر ، وبحذر لفكرة ان ننظم للشبيبة العالمية وكان اغلبنا ، بين سن 16 و 17 وهناك من هو في سن 15 سنة ، وكان اندفاعنا هائلا ، وننشد من خلاله لتغيير صورة ماكان عليه حال البلد ، خصوصا بعد المتغيرات التي طالت نظام الحكم في العراق ، وكان لنا ذلك ، بعد ان تعرفنا على طالب الطب مرحلة رابعة الرفيق عدنان ، والذي قام بتعريفنا له احد شيوعيي مدينة الثورة ، من قطاع 46 وكان في حينها طالبا في كلية الاداب قسم اللغة العربية ، له وجه اسمر ملفوف بصفرة ، حذرا ، وقلق ، وكان يتأبط دائما احد كتب لينين ، او كتاب عن الماركسية ، ولاول مرة شاهدنا صورة لماركس ولحيته الكثه ، مع رفيق دربه انجلز ، وبعض من صور لينين ، وكانت صدمة لنا ، حيث ان الامر يبدو في تلك الفترة اشبه من يريد الانتحار بشكل علني .
كانت لقاءاتنا بالرفيق عدنان طالب الطب الوسيم ، والذي يسكن مدينة المنصور ، محصورة في مكان خارج حدود رؤية رجال الامن ، وغير مثير للشبهات ، وتم اختيار قناة الجيش من جهة حي الطرق والجسور ، وكما هو معلوم فان تلم الفترة لم تشهد انفجارا سكانيا كما هو الحال الآن ! تكررت تلك اللقاءات ، مع شروحات وتوضيحات عن عمل الشبيبة العالمية ، ومديات تأثيرها على الجماهير ، وكانت تتكرر مفردات الكادحين ، والاممية ، والاشتراكية ، والكثير من المصادر الخاصة عن حياة لينين ، وثورته البلشفية ، وكنا نصغي بقلق ، وارتباك ، وكأننا نمارس عملا مخيفا ومرعبا ؟ وتطور الامر الى ان ندعو فتية آخرين للانضمام لتلك الشبيبة ، وتم تلقيننا كيفية ذلك ، من خلال التشجيع على القراءة ، وتحديد نوعية تلك القراءة ، كانت خليتنا مكونة من اريعة اشخاص ، على كاظم وسعد عبد الله وعدنان جبر وانا ، واحيانا يحضر معنا صاحبنا الاسمر الحذر والذي يتأبط كتاب لينين دائما ، عبد عباس العذاب ، واستمر الامر لثلاثة اشهر ، وكان انسحابنا بعد عملية اللقاء على حدود قناة الجيش ، فرادا ، حتى يلتئم تجمعنا ثانية قرب بريد الاولى ، المدخل الرئيس لمدينة الثورة ، بعد اجتياز حدود جامع سيد حسين .
في آخر لقاء لنا مع طالب الطب الرفيق عدنان ، وفي نفس المكان ، أُثير سؤال من احد افراد خليتنا نحن الاربعة ، وتحديدا من عدنان جبر ، والذي كان ومنذ انتماءنا للخلية ، قلقا ، ويعيش حالة من الخوف ، خاصة وان له أخ يعمل شرطيا في مركز الوحدة في منطقة الچوادر ، مقابل مستشفى الچوادر العام ، وكان سؤاله للرفيق عدنان عن حال الخلية ان تم كشف عملها ، والقاء القبض على عناصرها ، ماذا ستكون نهايتهم ، وامام تردد رفيقنا مسؤول الخلية ، وامتعاضه من السؤال المباغت ، قال وبطريقة مرتبكة ، وتنم عن قلق شديد ، شوفو رفاق ، انتم تعلمون ان هناك في العراق الحزب الشيوعي ، وهو يعمل بسرية تامة ، لكنه يتطلع لاعلان قانون الجبهة الوطنية ، حتى يتسنى له ان يكون فاعلا ، وبشكل علني للعمل ، وتنظيم صفوفه ، واعادة هيكلة عمله ، مع الاعتماد على زج طاقات جديدة في خلاياه ، وكما تعلمون حين يتم القاء القبض على احد عناصر الحزب ، تكون هناك اجراءات تحقيقية ، للحصول من المعتقل ، على بعض المعلومات عن الحزب وتحركاته وعناصره ، واحيانا تطول فترة الاعتقال ، حينها قال الرفيق عدنان جبر ، وماذا بعد ذلك ، هل يتم تصفيته ، او ماذا ؟ رد مسؤول الخلية ، لا ربما يتم سجنه ، او ترحيله لمكان اخر خارج بغداد ، اما مايتعلق بالشبيبة فالامر مختلف ، قال ذلك ووجوه الرفاق بدأت بالتوجس ، وبان عليها خوف شديد ، ماذا تعني رفيق عدنان ، قال : ان عمل الشبيبة غير مصرح به ، وغير معروف عمليا ، وهو عمل يستهدف الشباب ، واعدادهم كعناصر فاعلة ، فيما بعد ، بين الحزب ، والجماهير ، وهي غير معّرفة للسلطة ، لهذا تكون نهاية من يتم القاء القبض عليه ، هو الاعدام ! … صمت مطبق نزل على مجموعتنا ، وكان اول المذهولين ، هو عدنان جبر ، وانقلب لون وجهه الى الاصفرار ، وكانه في الطريق الى المقصلة ! كان هذا اللقاء الاخير ، والنهائي ، مع الرفيق عدنان مسؤول خليتنا للشبية العالمية ، وبعد ان استئذناه بالعبور الى الشارع المقابل لوقوفنا ، وقبل توديعنا من قبله ، وقبل ان يتوارى جهة قناة الجيش ، وحين سؤاله عن وجهتنا ، قلنا له بصوت واحد ، باننا جائعون ونحن نشير اتجاه عربة من خشب يبيع صاحبها بعض انصاف الصمون مغمسة بالعنبة ، والطماطم ، وكان الرفيق ، قد قرأ ، وبشكل ذكي الخوف الذي تسرب الى وجوهنا ، وهو يودعنا بأبتسامة غامضة ؟
بعد سنوات من الارباك ، وعدم وضوح صورة العمل المشترك ، مع السلطة ، وتداعيات كثيرة حصلت في العراق. ودخولنا الخدمة العسكرية وتحديدا في وزارة الدفاع ، عام 75 وبداية الاستفسار عن انتماءات الجنود السياسية ، والريبة لدى ضابط التوجيه السياسي من مفردة ، مستقل ، في مذكرة الاستفسار ، صار امرنا صعب جدا ، مما دفع عناصر استخبارات وزارة الدفاع التحري عن اسماء اولئك الذين يذيلون القائمة الامنية بعبارة مستقل لينتهي بنا الحال الى نقلنا الى فصائل الشغل المخصصة للمشكوك بامرهم ، وكانت تلك الامكنة مهمتها اعادة تأهيل اولئك الذين لم ينخرطوا في صفوف حزب البعث ، عبر مراقبتهم ، وتوجيه الاسئلة لهم عبر تحقيق اسبوعي ، مع عمل شاق ، وسط مياه آسنة للحط من معنوياتهم واذلالهم ! واثناء انهيار الجبهة الوطنية في العراق ، وبعد ان بدأت طلائع الاعتقالات تأخذ منحى غريب ، ومخيف ، وخلال لقاء غير مخطط له ، مع صديقي التاريخي الشاعر عبد الكريم اللامي في ساحة الاندلس ، وبحجة البحث عن عمل عبر مكاتب التشغيل ، وامام الحفرة العملاقة لدك اساس فندق السدير نوفيتيل ، المقابل لفندق صحارى العتيد ، وبجوار القطعة المخصصة لباص نقل الركاب ، وسط رلئحة ازهار آذار ، ونحن نشتري صحيفة طريق الشعب في عددها الخاص والمتضمن بيان الحزب في مسألة انهيار الجبهة الوطنية ، ووصايا الحزب لكادره ، حينها الساعة تشير الى الثامنة صباحا ، وكنا انا وصديقي ابا ياسر قد حصلنا على العدد الاول من نسخ الجريدة من مكتبة بجوار فندق صحارى ، محاذية لمحلات الصباغ للموبيليا ، وكان بائع المكتبة لم يبع نسخة واحدة لاحد قبلنا ، وحين عبورنا الشارع باتجاه الحفرة العملاقة لاساس فندق السدير ، ونحن نقلب صفحات الجريدة ، سمعنا صوت دوي صفعة على وجه بائع الصحف ، وسؤاله عن النسخة التي باعها ، ولمن؟ فما كان منا سوى الهرولة باتجاه الحفرة العملاقة ، كي نختفي من عيون اصحاب الصفعة المدوية ، ونحن نقرأ المقطع الاستهلالي من قصيدة الشاعر الكبير رشدي العامل ، ياولدي ، والتي تقول:
لاترحل ياولدي
فأن شراع الغربة
اسود من وجه الجلادين…….